المادة    
  1. نسبة ما جاء به غير الأنبياء إلى ما جاء به الأنبياء

    ومن هنا نجد أن نسبة علوم الأنبياء أو ما جاء به الأنبياء كما عبر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله تبارك وتعالى عليه: ما جاء به غير الأنبياء إلى ما جاء به الأنبياء كنسبة أي شيء أو أي رقم أو أي علم من العلوم إلى ما لا يتناهى, فمثلاً: في علم الرياضيات نسبة أي رقم إلى ما لا يتناهى أو إلى النهاية معروفة! صفر ليس شيئاً.
    بمعنى: أن ما جاء به الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم فيما يتعلق بأشرف أنواع العلوم والمعارف، وهو معرفة الله تبارك وتعالى، فهو أعظم من أن يأتي به غيرهم وأجل وأسمى, وبمعنى آخر: يلزم من ذلك أن يكون ذلك أعظم مطلب تسعى إليه البشرية! فعلى البشرية أن تجتهد في معرفة علوم الأنبياء، وما الذي جاءوا به؟ وكيف ترتقي إلى درجتهم ومرتبتهم؟
    ومن أشد ما يُرتَكب في حق البشرية من الإجرام أن يحرّف الوحي الذي جاء به الأنبياء، وأن يُغيّر عن منهجه وأن يساوى بعد ذلك، أو كما وقعت في كثير من الأمم المساواة بمجرد رؤية الفلاسفة أو الحكماء أو ما أشبه ذلك، وهذا حدث مع أهل الكتاب -كما سوف نبينه إن شاء الله- فما بالك بغيرهم.
  2. ظهور العلوم التي جاء بها الأنبياء على غيرها مهما كان

    الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم يأتون إلى هذه الدنيا، يرسلهم الله تبارك وتعالى ويبعثهم ليقدموا للبشرية النموذج الذي لا يمكن أن يأتي أحد بمثله في التعامل, وفي حسن الخلق, وفي العدل وفي الرحمة، ومع ذلك يُؤيدون ببراهين لا يمكن لأحد أن يأتي بها على الإطلاق مهما ادعى ذلك.
    ثم تأتي القضية الثالثة المهمة جداً وهي أن الله تبارك وتعالى ينصرهم على من خالفهم وعلى من ناوأهم، وتظل ذكراهم خالدة مدى الدهور لا يدانيها ولا يقاربها أحد على الإطلاق.
    فمهما تحدثنا مثلاً: عن ملوك الحضارات القديمة, عن التجار, عن الأدباء, عن الكتاب، أياً كان من هذه الصفات فلا أحد حظي أو يحظى قط بمثل منزلة ودرجة ورتبة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم؛ ولذلك من أكبر الأخطاء التي تقع فيها تلك الأمم أن تنحط من مقام النبوة إلى مجرد أنهم حكماء أو فلاسفة أو ما أشبه ذلك، فهذا من عدم تقديرهم على حقيقتهم.
    نقول: تبقى ذكراهم خالدة.. تبقى آثارهم خالدة.. تبقى علومهم وما بينوا وما أرسوا للناس أسمى منار يمكن أن يهتدي به البشر.
    هناك بشر لهم تأثير كبير في تاريخ البشرية، ولهم أثر عظيم في مسارها الخلقي وسموها ورقيها الروحي، ولكن كثيراً من الناس يشتبه عليهم الأمر؛ لأنه بفعل تأثير الانحرافات والتشويه وما حدث من أعدائهم وما حدث من أتباعهم من الضلال اختلطت! أصبحت دعوتهم وما جاءوا به كأنما هو أفكار فلسفية أو آراء بشرية؛ ولذلك نجد على سبيل المثال أن النبوة في الحضارات الشرقية كـ الصين و الهند و اليابان أصبحت أشبه ما تكون بمجرد حكمة! فـ بوذا عند أكثر هؤلاء ليس بنبي يوحى إليه, وإنما هو مجرد حكيم، نحن لا يهمنا شخص بوذا مَن هو؟ لكن الذي يهمنا أنه لا بد أن هناك أنبياء، وأنهم قد بعثهم الله تعالى، فليكن اسمه ما كان؛ فهذا لا يهمنا, فليكن تاريخه ما كان؛ فلا يهمنا كذلك، أما أن يكون التاريخ البشري هو مجرد حكماء يُسمى أحدهم أو بعضهم بوذا فقط؛ فإن هذا بلا شك خطأ مناف للحقائق التاريخية والحقائق الإيمانية عند المؤمنين؛ فهذا نوع من أكبر أنواع التشويه لتاريخ النبوة والأنبياء في هذا الجزء من العالم.
    في المرحلة المتأخرة أو في العالم الغربي نجد مثلاً: سقراط، يذكرون أنه نبذ الآلهة, وأنه رفضها, وأنه حذر اليونان منها؛ لكن لا يثبتون أنه نبي، -نحن لا يهمنا أيضاً أن يثبت أو لا يثبت؛ لأن ثبوت نبوة أي أحد إنما تثبت بالدليل الصحيح الشرعي, أو بتواتره عند أمة من الأمم, مثلاً: عند أمة الفرس أو غيرها- لكن المقصود أن نقول: أياً كان اسمه فإنه ما تكلم به فلان من الناس -أو من قبله أو من بعده- فهو من آثار النبوة, كما يقرر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه: لا يخلو العالم من آثار النبوة أبداً! ومن أعظم آثار النبوة نبذ الشرك ونبذ عبادة غير الله تبارك وتعالى.
  3. العلوم التي جاء بها غير الأنبياء

    العجب ليس هذا فقط، العجب هو ما الذي جاء به الآخرون الذين نُصِّبوا وجعلوا وكأنهم معالم أو هداة في التاريخ البشري، كما حدث على سبيل المثال لبعض فلاسفة اليونان.
    إذا نحن نظرنا من خلال تاريخنا المعاصر التاريخ الحي؛ الذي نحن نقرؤه الآن وقد كثرت شواهده واستفاضت, وانتشرت بين البشر بما لم يكن من قبل؛ فإننا نجد أن فلاسفة اليونان كانوا في حالة يرثى لها في أمور كثيرة، -وقبل أن نبين ذلك قد يظن البعض أن هذا على سبيل الانتقاص أو الاحتقار، نحن نقررها وهذا ما قرره علماء الإسلام من قبل-.
    نقول: إن ما يتعلق بالعلوم الطبيعية أو الفلكية أو الرياضيات أو ما أشبه ذلك، فهذا لا إشكال فيه, وليس الكلام في هذه الأمور، الكلام فيما يتعلق بالله، فيما يتعلق بمعرفة الله تبارك وتعالى وهي أجل أنواع العلوم والمعارف، فيما يتعلق بالدار الآخرة, وأيضا فيما يتعلق باستقامة الفكر الذي تنتج عنه هذه العلوم الأرضية والعلوم البشرية.
    مع الأسف نجد أن الفلسفة اليونانية بجميع مراحلها وإن كانت تُعد في نظر هؤلاء المفكرين الماديين أعظم المراحل أو هي النقلة للتاريخ الإنساني والبشري من مرحلة ما قبل الفلسفة إلى مرحلة الفلسفة التي هي عندهم مرحلة النور، عندما نجد من يكتب عن مراحل ما قبل الفلسفة في الفكر الغربي، يُذكر أن هؤلاء نقلوا العالم إلى مرحلة الفلسفة، وهي مرحلة الدليل العقلي والاستنباط والبينات والبرهان، وما قبلها في نظرهم مرحلة خرافة!
    هل هذا الكلام صحيح؟! ماذا نجد إذاً؟!
    نجد أن فلاسفة اليونان بينهم أولاً من التناقض والاختلاف الشيء الكثير جداً - الذي نأتي عليه إن شاء الله في موضعه- بل هناك مدارس مختلفة اختلافاً شديداً؛ فـ أفلاطون مختلف عن أرسطو ، و أرسطو اختلف عليه من بعده، فليس هناك منهج جامع يجمعهم، ولو نظرنا إلى أفضل ما جاءوا به فهو في العلوم التي يمكن أن يباريهم فيها أي إنسان! وهي كما قلنا نظرات في الطبيعة أو الطب أو في الفلك، والآن العلم البشري بل قبل قرون من الآن تجاوز علوم اليونان هذه؛ بل المسلمون العرب تجاوزوها بكثير في أيامهم، إذاً هذه لم يعد لها قيمة.
    لكن فيما يتعلق بالله وفي معرفة الله تبارك وتعالى نجد أن أرسطو ومن قبله ومن بعده وتلامذتهم كانوا منحطين إلى درك الشرك، كانوا يعبدون الأصنام والأوثان من دون الله تبارك وتعالى، كانوا يعتقدون في الموتى وفي الأضرحة والقبور مثلما يفعل المشركون من أهل الكتاب وغيرهم، كان أولئك الأقوام وأولئك الفلاسفة يعبدون الجن، ويسمونهم الآلهة وعندهم في جبل الأولمب في اليونان هذا يسمونه جبل الآلهة، فكثير منهم يقول: إنه يرى الآلهة وأنه يدعوهم، يؤمن بالخرافات الكثيرة جداً عن صراع الآلهة, وأن بعض الآلهة أقوى من بعض, وهكذا منحدرات من الشرك الذي يترفع عنه أدنى عاقل من أتباع الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم.
    وهؤلاء الذين يظهرون لهم ويتصورن لهم ويحدثونهم إنما هم من الشياطين من الجن الذين يعبدونهم, والذين أضلوهم كما أضلوا غيرهم من الأمم، فلم يكن أي فرق بين هؤلاء وهؤلاء، السحر والشعوذة والكهانة والدجل الذي نجده عند الحكماء العراة من الهنود وأشباههم، موجود ولكن بعد آلاف من السنين وبأنواع أيضاً من التحريف والتبديل بذاته وبنصه عند كثير من حكماء أو فلاسفة اليونان؛ على اختلاف مدارسهم وعلى اختلاف مناهجهم.
    ما يمكن أن يعتبره المفكرون الماديون إنجازاً للعقل اليوناني هو أن يأتي من يرفض الغيب جملة، ونحن في الحقيقة لم نجد هذا, نقول: من خلال القراءة المستقرئة للفكر اليوناني لا تجد من ينكر الغيب جملة كما يتخيل أو تخيل بعض فلاسفة عصر التنوير في القرن السابع عشر والثامن عشر في أوروبا ! إنما يوجد على سبيل المثال من يفسّر الكون ونشأة الكون تفسيراً مادياً بحتاً، أي: لا يفترض أن الله تعالى هو الخالق؛ بل يأتي بتفسير يختلف عن رواية سفر التكوين في التوراة ، ويختلف أيضاً عن الروايات عن بابل وعن سومر وعن أشباهها في كيفية الخلق أو كيفية ما بعده من أحداث كالطوفان مثلاً، فاعتُبر طاليس أو غيره الذين قالوا: إن العناصر الأربعة هي التي تكوّن منها الكون, وأنهم لا يفترضون أن خالقاً خلقها وهي: النار والماء والهواء والتراب.
    هذه نظرية مادية جديدة, واعتبروها فتحاً عظيماً في التاريخ الإنساني كما يزعمون، وقال بها أصحابها في القرن السادس والخامس قبل الميلاد أو السابع قبل الميلاد، بمعنى آخر قبل غزو الإسكندر بقرنين أو ثلاثة، وبناء على ذلك يظنون أن هذه أول نقلة في التاريخ من النظريات الغيبية أو الخرافة إلى الانتقال للفكر العلمي!
    حقيقة الأمر أنه لا يوجد بهذا المصطلح بهذه الدقة أي شيء من ذلك.
    كل هذه النظريات التي ورثها اليونان من الثابت ومن المؤكد أنهم مسبوقون بها وإليها، ونجد أن من الكلام العظيم الدال على عظم العلم وسعة الاستقراء؛ أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه يذكر أن هذه العلوم اليونانية منقولة عن أهل الكتاب وغيرهم من الذين جاءوا بعد سليمان عليه السلام، يعني: في القرن العاشر قبل الميلاد، بعده بأربعة قرون عندما أخذ الناس عنه وعن الأنبياء الآخرين صلوات الله وسلامه عليهم علماً وتنويراً حقيقاً، ولكن حُرِّفت وطُمست؛ فنجد بعدهم بأربعة قرون يظهر هذا الفكر اليوناني؛ من خلال دراسات أهل الكتاب المنحرفين الذين نجد أنهم في التوراة نفسها -كما سوف نرى إن شاء الله- يعتبرون سليمان عليه السلام موصوفاً بصفتين: أنه ملك، وأنه حكيم, ولا يذكرون له صفة النبوة على الإطلاق!
    فهذا الانحراف ولد عند اليونان -وهم لا يريدون أن يعترفوا أو يقروا لغيرهم بعلم خارق للعادة وخارج عن المألوف- فأخذوا هذا ونقلوه من العبرية وغيرها من اللغات إلى اللغة اليونانية، وأصبحت كثير من المصطلحات في اللغة اليونانية والفلسفة اليونانية نستطيع أن نرجعها إلى أصولها العربية، إما عن طريق اللغة العبرية, وإما عن طريق غيرها من اللغات.
  4. الموقف من المقارنة بين ما جاء به الأنبياء وما جاء به غيرهم

    يتبين بذلك أن المقارنة -التي مع الأسف وقع فيها كثير من الناس ولا يزالون- بين معارف وعلوم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم وما جاءوا به، وبين ما جاء به اليونان وغيرهم ومن بعدهم من الفلاسفة -حتى من يُدعون: الفلاسفة الإسلاميين- مقارنة جائرة وغير صحيحة, إلى حد أن الذين يدّعون الحكمة المشرقية أو الإشراقية مثل: الرازي وأتباعه و ابن سينا ، أو من جاء بعد ذلك بحكمة أرسطو مثل ابن رشد وأتباعه.. فكلا المجموعتين وقعتا في خطأ مشترك وضلالة كبيرة جداً في المنهجية العلمية البحثية؛ فضلاً عن القضية الإيمانية الاعتقادية، ونحن لا نتكلم عن النيات؛ بل كثير منهم -كما يظهر في وصية الرازي وغيره- يظن أنه ينصر الحق وينصر الدين؛ لكنه بهر وأعجب بالحضارة القديمة وبالفكر القديم وبالفلسفة القديمة، وهي لا تكاد أبداً أن تذكر ولا تساوي شيئاً إذا ما قورنت بحقائق وأنوار القرآن والوحي القرآني والوحي النبوي الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم.